في لحظة بالغة الحساسية، خفّضت وكالة «إس آند بي غلوبال ريتنغز» تقييمها لنظرة مصر المستقبلية من «إيجابية» إلى «مستقرة». هذا التحوّل، رغم أنه لا يمس التصنيف الائتماني المباشر، إلا أنه يحمل دلالات عميقة على توازن هش بين جهود الإصلاح من جهة، والضغوط العالمية والمحلية من جهة أخرى.
الوكالة أشارت صراحة إلى أن التحديات التمويلية التي تواجهها مصر، سواء داخليًا أو خارجيًا، تجعلها أكثر عرضة للتقلبات المالية العالمية، في وقت تواصل فيه الأسواق الناشئة التقلب وسط موجات عدم اليقين.
أعباء الدين والفائدة: أزمة متراكمة تكشف عمق التحديات
في تحليلها، لفتت «إس آند بي» إلى أن مصر تتحمل واحدًا من أعلى أعباء خدمة الدين المرتبطة بالإيرادات الحكومية على مستوى الدول الخاضعة لتغطيتها. هذا المؤشر، في ذاته، يكشف عن عبء مالي ثقيل قد يعرقل أي خطوات جادة نحو التوسع أو الاستقرار الاقتصادي في المدى القريب.
الإشارة الأبرز كانت إلى تداعيات قرار البنك المركزي برفع أسعار الفائدة إلى 27.25%، بجانب تحرير سعر الصرف، وهي إجراءات ساهمت في ارتفاع عوائد سندات الخزانة ومزادات الديون، ما ضاعف من كلفة خدمة الدين المحلي، لا سيما أن معظم هذه الديون يتم إصدارها بأجل قصير.
تدفقات الأموال الساخنة: الخطر الصامت في سوق السندات
وسط هذه التقلبات، حذّرت «إس آند بي» من أن المستثمرين الأجانب في أدوات الدين قد يتجهون إلى سحب استثماراتهم كنوع من الحذر الاستباقي، وهو ما يهدد بإشعال موجة جديدة من الضغوط على سوق السندات المحلية، ويدفع إلى المزيد من عدم الاستقرار النقدي.
في ظل الارتفاع الكبير في العوائد المحلية، تبقى السيولة سريعة التحرك أو ما يُعرف بـ«الأموال الساخنة» سيفًا ذا حدين، قد يسهم في تخفيف الأعباء مؤقتًا، لكنه سرعان ما ينقلب إلى أداة ضغط فور تغير المعطيات.
«فيتش» تُبقي على تصنيفها وتسلط الضوء على التناقضات
على الجانب الآخر، اختارت وكالة «فيتش» الإبقاء على تصنيف مصر الائتماني عند درجة «B»، مع نظرة مستقبلية «مستقرة». ورغم أنها لم تُجرِ تعديلًا سلبيًا، إلا أنها لم تُغفل مواطن الضعف في الاقتصاد المصري، والتي تتمثل في ضعف المالية العامة، ومستوى الفوائد المرتفع، والحاجة المستمرة للتمويل الخارجي.
في المقابل، رأت «فيتش» أن نقاط القوة ما زالت حاضرة، ممثلة في حجم الاقتصاد المصري، وفرص النمو الكامنة، إلى جانب الدعم المستمر من شركاء دوليين، سواء على المستوى الثنائي أو من المؤسسات متعددة الأطراف.
احتياطيات النقد الأجنبي: الصعود المؤقت والانكماش السريع
في تقييم دقيق، تناول تقرير «فيتش» تراجع الاحتياطيات الأجنبية بعد أن شهدت زيادة ملحوظة في الربع الأول من 2024، مدفوعة بصفقة «رأس الحكمة» وتدفقات غير المقيمين نحو أدوات الدين المحلي. إلا أن هذا الفائض لم يدم طويلًا، حيث انقلب إلى عجز في صافي الأصول الأجنبية للقطاع المصرفي، بلغ 1.9 مليار دولار بحلول فبراير 2025، بعد أن كان سجل فائضًا في يونيو السابق.
هذا التحول يسلط الضوء على هشاشة التوازن النقدي، ويشير إلى تأثر الاستقرار المالي بتقلبات رؤوس الأموال قصيرة الأجل، ما يدفع للتساؤل حول مدى صلابة الإجراءات المتخذة خلال العام الماضي.
«موديز» تحافظ على التفاؤل الحذر وسط الغيوم المتراكمة
في سياق موازٍ، احتفظت وكالة «موديز» بتصنيف مصر عند درجة «Caa1» بنظرة مستقبلية «إيجابية»، في تقريرها الصادر في فبراير الماضي. رغم أن هذا التصنيف يُعد منخفضًا مقارنة بتصنيفات الوكالات الأخرى، إلا أن الإبقاء على التوجه الإيجابي يعكس بعض الثقة في قدرة الدولة على تحسين أوضاعها المالية في المستقبل القريب، شريطة استمرار الإصلاحات.
التأثير الأميركي: رسوم ترمب وتعقيدات الشراكة التجارية
فيما يبدو كعامل خارجي إضافي، نبهت «إس آند بي» إلى أن الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب على مصر، والبالغة 10%، رغم كونها محدودة نسبيًا، قد تترك أثرًا على صادرات محددة مثل المنسوجات والحديد والخضروات.
ورغم أن الولايات المتحدة تُعد شريكًا تجاريًا مهمًا لمصر، إلا أن صادرات مصر إليها تشكل أقل من 6% من إجمالي صادرات السلع، وأقل من نصف بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، مما يعني أن الأثر المباشر سيظل محدودًا.
لكن الوكالة نبهت أيضًا إلى ما أسمته «الأثر الثانوي» لتلك الرسوم، والذي قد يطال الأسواق العالمية عمومًا، ويؤدي إلى تضييق في شروط التمويل الدولية، ما قد يضاعف التحديات التي تواجهها الدول الناشئة، ومن بينها مصر.
بين الضغوط والفرص: كيف توازن مصر بين التحديات والدعم؟
ما بين تثبيت التصنيفات وتعديل النظرات المستقبلية، يبدو أن مصر تقف على مفترق طرق بالغ الحساسية. في مواجهة الأعباء المالية الثقيلة، والتقلبات العالمية، وتغير شهية المستثمرين، يبقى التحدي الحقيقي هو الحفاظ على ثقة الأسواق، دون التضحية بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
الالتزام بالإصلاحات، ولو ببطء، لا يزال يحظى باعتراف المؤسسات الدولية. لكن الحفاظ على هذا المسار يتطلب قرارات حاسمة، وتواصلاً واضحًا، وقدرة على امتصاص الصدمات المتوقعة وغير المتوقعة.
اترك رد