في حدثٍ يُعدُّ مفاجأةً علميةً وبيئيةً نادرة، أعلنت صحيفة “نيويورك تايمز” عن رصد الضبع المرقط في الأراضي المصرية لأول مرة منذ 5000 عام، وذلك داخل محمية “علبة” الطبيعية بجنوب شرق البلاد. الاكتشاف الذي هز الأوساط العلمية العالمية، وانتهى بمأساة مقتل الحيوان النادر على يد سكان محليين، يطرح تساؤلاتٍ عديدة حول أسباب عودته المفاجئة، وتداعيات اختفاء الأنواع المنقرضة على النظام البيئي.
الضبع المرقط: ضيف من عصور ما قبل التاريخ
الضبع المرقط (Crocuta crocuta)، المعروف بفرائه المميز المرقط وقوته البدنية الفائقة، كان يُعتقد أنه اختفى من مصر منذ العصور الفرعونية، وفقًا للسجلات الأثرية التي تُظهر رسومه على جدران المعابد كرمز للقوة والشراسة. يعيش هذا النوع حاليًّا في مناطق السافانا الأفريقية، خاصةً في السودان وكينيا، حيث تُعدُّ جماعاته جزءًا من التوازن البيئي عبر افتراس الحيوانات الضعيفة ومنع انتشار الأمراض.
لكن المفاجأة كانت عندما رصدت كاميرات المراقبة في محمية “علبة” — إحدى أكبر المحميات الطبيعية في مصر — ظهورًا مفاجئًا للضبع المرقط على بعد 480 كيلومترًا شمال موطنه المعروف في السودان. الاكتشاف الذي أكده الدكتور عبد الله ناجي، عالم الحيوانات البرية بجامعة الأزهر، عبر مجلة “ماماليا” العلمية، أثار دهشة الباحثين، إذ لم يُسجل أي وجود لهذا النوع في المنطقة منذ آلاف السنين.
الرحلة الغامضة: كيف عبر الحدود الطبيعية؟
تساءل العلماء: كيف تمكن الضبع من قطع هذه المسافة الشاسعة عبر صحاري وقفارٍ قاحلة، ليصل إلى محمية نائية في مصر؟ بعض النظريات تشير إلى أن التغيرات المناخية الحادة في السنوات الأخيرة، خاصةً الجفاف الذي ضرب شرق أفريقيا، قد دفع الحيوانات إلى الهجرة شمالًا بحثًا عن الماء والغذاء. بينما يرى آخرون أن انخفاض أعداد المفترسات الطبيعية في السودان، مثل الأسود، سمح للضباع بالتوسع خارج نطاقها الجغرافي المعتاد.
الدكتور ناجي علق قائلًا: “هذا الاكتشاف يُعيد كتابة تاريخ توزيع الأنواع في أفريقيا. قد تكون هناك جماعات صغيرة من الضباع المرقطة تعيش في مناطق لم نكتشفها بعد، أو أن التغيرات البيئية أجبرتها على تغيير سلوكها”.
المأساة: لقاء مصيري بين الإنسان والضبع
لكن قصة الضبع المرقط في مصر لم تكن سعيدة. فبعد أيامٍ من رصده، هاجم الحيوان مزرعةً محليةً في محيط المحمية، وافترس رأسين من الماعز، مما دفع السكان إلى مطاردته وقتله خوفًا على مواشيهم. الحادثة أثارت جدلًا واسعًا بين مؤيدين لضرورة حماية الحياة البرية، ومعارضين يرون أن وجود الحيوانات المفترسة يهدد سبل عيشهم.
السيد محمود عبد الرحيم، أحد سكان المنطقة، قال: “لم نرَ مثل هذا الحيوان من قبل. اعتقدنا أنه وحشٌ أسطوري بسبب حجمه الكبير وعلاماته الغريبة”. بينما عبَّرت منظمات حماية البيئة عن أسفها لعدم تدخل السلطات بسرعة لحماية الضبع، مؤكدةً أن مثل هذه الحوادث تُظهر غياب الوعي بأهمية المحميات الطبيعية.
تداعيات الاكتشاف: بين الفرح العلمي والخسارة البيئية
رغم الخسارة الفادحة بوفاة الضبع، يُعتبر هذا الرصد حدثًا علميًّا استثنائيًّا. فدراسة الحمض النووي للحيوان يمكن أن تكشف عن معلوماتٍ حيوية حول تطور الأنواع، ومدى تأثرها بالتغيرات المناخية على مدى آلاف السنين. كما أن العثور على ضبعٍ مرقطٍ في مصر قد يشير إلى وجود جماعات أخرى مختبئة في المناطق النائية، مما يستدعي تعزيز جهود المراقبة والحماية.
من جانبها، بدأت وزارة البيئة المصرية بالتعاون مع خبراء دوليين في إطلاق حملةٍ لاستكشاف المحمية والمناطق المحيطة، باستخدام طائراتٍ دون طيار وتقنيات التتبع الحديثة. الدكتورة منى الخولي، الخبيرة البيئية، تقول: “هذا الضبع كان بمثابة رسالةٍ من الماضي. علينا أن نستعد لاحتمال عودة أنواعٍ أخرى منقرضة، وأن نُعزز التعايش بين الإنسان والطبيعة”.
التحديات: كيف نحمي ما تبقى؟
الحادثة تطرح تساؤلاتٍ ملحةً حول سياسات حماية المحميات في مصر. فمحمية “علبة” — التي تُعدُّ موطنًا للكثير من الأنواع النادرة مثل النمر العربي — تعاني من نقص التمويل وضعف البنية التحتية، مما يجعل مراقبة الحيوانات مهمةً صعبة. كما أن غياب برامج توعية للمجتمعات المحلية يزيد من خطر تكرار الحوادث.
خبراء البيئة يقترحون حلولًا عاجلة، مثل تدريب السكان على التعامل مع الحيوانات البرية، وإنشاء صندوقٍ تعويضي للمزارعين الذين تتضرر مواشيهم، وإدراج الضبع المرقط ضمن قائمة الأنواع المهددة في مصر، لضمان حمايته قانونيًّا إذا ظهرت أفراد أخرى.
الدرس المستفاد: التوازن بين التقدم العلمي والواقع الاجتماعي
قصة الضبع المرقط تُلخِّص التحدي الأكبر الذي تواجهه الدول النامية في الحفاظ على التنوع البيئي: كيف نوفق بين التقدم العلمي وحقوق المجتمعات المحلية؟ فبينما يرى العلماء في هذه العودة فرصةً ذهبيةً لدراسة التطور البيئي، يرى السكان المحليون تهديدًا مباشرًا لأمنهم.
الخبير الدولي في الحياة البرية، ديفيد أتينبارا، علق على الحادثة قائلًا: “الضبع المرقط لم يختر أن يهاجر إلى مصر، بل اضطر لذلك بسبب تغيراتٍ صنعها الإنسان نفسه. علينا أن نتعلم من هذه الأحداث، وأن نخلق عالمًا يتعايش فيه الجميع”.
رسالة من أعماق التاريخ
عودة الضبع المرقط إلى مصر بعد آلاف السنين ليست مجرد حدثٍ علمي، بل جرس إنذارٍ حول عواقب التغيرات المناخية والتدخل البشري في الأنظمة البيئية. ربما يكون هذا الضبع أول الوافدين من عالمٍ قديمٍ يحاول البقاء، لكنه يحتاج إلى يدٍ تساعد على ذلك، بدلًا من أن تقتله الخوف والجهل.
اليوم، بينما تُعلَّق صورة الضبع المرقط في متحف التاريخ الطبيعي بالقاهرة كشاهدٍ على عصرٍ مضى، يبقى السؤال: هل سنتعلم من الدرس قبل أن يختفي مجددًا، وهذه المرة إلى الأبد؟
اترك رد